عُمان تختار الأصالة على حساب ناطحات السحاب الحديثة

اتبعت سلطنة عُمان نهجاً مختلفاً عن جيرانها في المنطقة، فبدلاً من الانخراط في سباق التنافس لبناء الأبراج الشاهقة والمدن الذكية فائقة الحداثة، اختارت أن تحافظ على هويتها الثقافية وتوازنها البيئي، منطلقة من قناعة راسخة بأن الجمال الحقيقي يكمن في الأصالة والتناغم مع الطبيعة.
هذه الاستراتيجية التي قد تبدو متواضعة للوهلة الأولى، شكّلت في الواقع مشروعاً وطنياً متكاملاً لجذب نوع خاص من السياحة، يقوم على التقدير العميق للهدوء والتراث، بعيداً عن صخب المراكز التجارية العملاقة والزحام العمراني المتسارع.
فقد أدركت عُمان أن العالم العربي، ومعظم بلدان الخليج على وجه الخصوص، باتت تُعرف في السنوات الأخيرة بمدنها المستقبلية وأبراجها التي تناطح السحاب، وتسابقها المحموم نحو مشاريع عمرانية ضخمة في مجالات العقارات والبنية التحتية والاقتصاد السياحي.
لكن السلطنة، بخياراتها المتأنية، قررت أن تتفرد عن هذا الاتجاه العام، وأن تسلك مساراً يعكس انسجاماً بين تطلعات التنمية واحترام الإرث الحضاري، وهو ما يتجلى في المعمار التقليدي المنخفض الارتفاع، والتخطيط العمراني الذي يُراعي الطابع الجغرافي والبيئي للمكان.
وتسعى عُمان من خلال هذا النهج إلى بناء بيئة سياحية هادئة ومستدامة، تجذب الزوار الباحثين عن الاسترخاء والتواصل مع الطبيعة، بعيداً عن مظاهر الترف الاستعراضي.
وتُركّز السياسات السياحية في البلاد على تعزيز المواقع الطبيعية والتاريخية، مثل الجبال الشاهقة والوديان الخصبة والشواطئ النقية والحصون القديمة، مع الحفاظ على الطابع المعماري المحلي الذي يتميّز باستخدام الحجر والجص والخشب، ما يمنح المدن والقرى طابعاً موحّداً ينسجم مع المحيط الطبيعي.
ولعل هذا التوجّه لم يكن مجرد قرار ثقافي أو معماري فحسب، بل هو خيار استراتيجي يعكس رؤية واضحة لمستقبل التنمية في السلطنة، إذ تسعى الحكومة إلى ترسيخ نموذج اقتصادي يتسم بالاستدامة، بعيداً عن الهشاشة التي قد ترافق الاقتصادات المعتمدة على الاستثمارات الضخمة في قطاعات غير مستقرة.
وبهذا، تُوفّر السلطنة فرصة فريدة للسياح والمقيمين على حدّ سواء، لخوض تجربة مختلفة، قائمة على التوازن بين الراحة والبساطة، وبين المعاصرة والعمق التاريخي.
وتُثبت سلطنة عُمان، من خلال هذا النموذج، أن التنمية الحقيقية ليست في منافسة الآخرين على أعلى مبنى أو أكبر مشروع، بل في القدرة على صون الهوية، وتقديم نموذج تنموي يعكس خصوصية المجتمع ويحترم تاريخه وموروثه، ويمنح الزائر تجربة غنية وهادئة في آنٍ معاً.