وجهات سياحية

معلولا تستعيد ذاكرة الجبال وتستبقي روح التاريخ في ملامحها

تنهض بلدة معلولا من سفوح القلمون كأنها قطعة من زمن مضى، تتشبث بجذورها في الصخر، وتواصل حياتها في مزيج من الإيمان والعراقة، تقع البلدة شمال شرق دمشق على بعد 56 كيلومترا، وتعد واحدة من أقدم التجمعات المسيحية المأهولة في العالم، حيث تتجاور فيها الكنائس القديمة مع بيوتٍ جبلية بيضاء تصعد متدرجة نحو القمم.

يعيش سكان معلولا حياة يغلب عليها الهدوء والتآلف، إذ تضم أغلبية مسيحية وأقلية مسلمة تتقاسم الطقوس والمواسم والذاكرة، ويستمر بعضهم في التحدث باللغة الآرامية التي تعود إلى زمن المسيح، وهي اللغة التي جعلت من البلدة مرجعا فريدا لعلماء اللسانيات والباحثين في الحضارات السامية القديمة، ويصفها موقع “سوريا اليوم” بأنها مدينة “تعلق بين السماء والأرض”، بيوتها كأنها امتداد للغيم وجبالها تشهد على حضورها التاريخي.

تشكل الجغرافيا في معلولا عنصرا أساسيا في هويتها، فالبلدة شيدت بين سلسلتين جبليتين في قلب القلمون، واسمها في الآرامية القديمة يعني “المدخل” أو “العلو”، ما يعكس موقعها المرتفع وصعوبة الوصول إليها، وقد حملت عبر العصور أسماء متعددة، منها “سكوبولوسا” في العهد الروماني بسبب وعورة تضاريسها.

يتأثر مناخ البلدة بطبيعتها الجبلية، إذ تنخفض الحرارة في الشتاء إلى ما دون الصفر وتغطي الثلوج منازلها، بينما يكون الصيف معتدلا يجذب الزوار، ويحيط بها وادٍ أخضر تمتد فيه زراعة الزيتون والعنب والتين، ما يمنحها توازنا بين الطبيعة القاسية والخصب المتجدد.

ويبلغ عدد سكان البلدة نحو خمسة آلاف نسمة وفق تقديرات اليونسكو، إلا أن عدد المقيمين الدائمين يتراجع في فصل الشتاء بسبب البرد الشديد، ويزداد في الربيع والصيف عندما تتحول معلولا إلى مقصد سياحي يجمع الزائرين من داخل سوريا وخارجها، الباحثين عن تجربة روحية وتاريخية فريدة.

تحمل البلدة إرثا حضاريا يمتد آلاف السنين، إذ تعاقبت عليها حضارات آرامية ويونانية ورومانية وبيزنطية وإسلامية، فتركت كل منها بصمتها المعمارية والدينية، وتضم معلولا كنائس وأديرة من أبرزها دير مار سركيس ودير مار تقلا، وكلاهما يصنف ضمن أقدم المعالم المسيحية في العالم، كما تحتوي على كهوف ومغارات نحتها الإنسان القديم في الصخور، ما يجعلها متحفا مفتوحا يحكي عن العصور الأولى للسكن البشري.

وترتبط قصة البلدة بأسطورة القديسة تقلا التي هربت من ملاحقة والدها وجنوده بعد أن اعتنقت المسيحية، فانشق الجبل أمامها ليشكل ممرا ضيقا يعرف اليوم بـ”فجّ مار تقلا”، ويعد من أبرز المعالم السياحية التي تجذب الزائرين لما تحمله من رمزية دينية وتاريخية، ويقع بمحاذاته دير يحمل اسمها، يضم كهفا يقال إن القديسة عاشت فيه حتى وفاتها.

ويُعرف عن معلولا أيضا طابعها المعماري الفريد، فمنازلها متراكبة فوق بعضها على السفح الجبلي، وتبدو الأسطح كأنها شوارع معلقة تربط بين البيوت، وتمنح البلدة منظرا بانوراميا مميزا يجمع بين الصخر والحياة، كما تنتشر فيها مغارات قديمة استخدمت كمساكن ومعابد، منها معبد الشمس وحمام الملكة وصخرة الآلهة التي تعود إلى عصور وثنية سابقة.

ويمتد التسامح في معلولا إلى ملامحها الدينية، ففيها جامع قديم أعيد بناؤه منتصف القرن العشرين، يقف شاهدا على تعايش طويل بين المسلمين والمسيحيين، حيث لم تعرف البلدة صراعا طائفيا رغم تغير العصور والأحداث.

وكانت السياحة تمثل عماد اقتصاد البلدة، خصوصا السياحة الدينية التي ازدهرت بفضل معالمها التاريخية، غير أن هذا النشاط تراجع مع اندلاع الحرب السورية عام 2011، فتأثرت المرافق العامة وتضررت البنية التحتية، وهاجر كثير من سكانها بحثا عن الأمان والاستقرار، بينما بقي من اختار البقاء متمسكا بأرضه يرمم ما تهدم بجهد فردي.

تظل معلولا اليوم رمزا لصمود الذاكرة السورية، مدينة صغيرة تحرس لغتها القديمة وتحتفظ بإيمانها في وجه العواصف، وتستمر في سرد حكايتها من بين الصخور، كأنها تقول إن التاريخ لا يموت ما دام في الأرض من يرويه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى