أودية جازان تنبض بالحياة وتوثق ذاكرة المكان عبر العصور
تزدان جازان بتنوع تضاريسها، وتنحدر أوديتها من الجبال الشرقية لتروي الأرض وتغذي القرى، وتمنح الحياة للمدن التي نشأت على ضفافها، فتفجرت منها نهضة زراعية مستمرة اعتمدت على وفرة المياه وخصوبة التربة وسعة المراعي، وارتفعت فيها الأشجار الباسقة التي شكلت لوحة خضراء تتمازج فيها الأصوات والطبيعة والإنسان.
تحولت الأودية إلى مراكز نابضة بالحياة، وجمعت بين الزراعة والسكن والثقافة، فصارت رمزًا للخصب والارتباط بالجذور، وامتدت حولها الحقول الخضراء والسهول الخصبة التي تحفها أشجار الأثل والأراك والسمر والنخيل، ووجد فيها الناس متنفسًا طبيعيًا يعكس روح المكان وجماله، فغدت مقصدًا لعشاق الطبيعة والهدوء ومحورًا للحياة الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.
ذكرت كتب المؤرخين وقصائد الشعراء تلك الأودية التي صارت جزءًا من الذاكرة الجمعية لأهالي جازان، حيث تعد أودية ابن عبدالله وتَعْشر والمغيالة وخُلب والخُمس ومقاب ولِيَهْ وجازان وضمد وصبيا ونخلان وشهدان وبيش والسِر والرّدحة وسمرة وبَيض وعتود وريم من أبرز المعالم التي وثّقت علاقة الإنسان بالماء والأرض.
استعرض الباحث محمد أبوعقيل تاريخ أودية جازان كما ورد في مؤلفات المؤرخين، وأشار إلى أن الهمذاني ذكر وادي تَعْشر والمُلْحة وجُحْفان والمغيالة وخُلب ولِيَهْ وصبيا وبيش، وتناولها كذلك ياقوت الحموي وعبدالله النعمان، كما ورد ذكرها في قصائد الشعراء القدماء الذين رأوا في جريانها رمزًا للعطاء واستمرارية الحياة، ما يؤكد عمقها التاريخي ودورها في تشكيل الهوية الاجتماعية للمنطقة.
ربط الأهالي حياتهم بجريان الأودية، وكان الفرح يبدأ مع أول صوت للرعد وهطول المطر، ثم مع رائحة “الخَبان” التي تحملها الرياح لتعلن قرب السيل، فيخرج المزارعون فرحين نحو الوادي لمتابعة تدفق الماء باتجاه “العقوم” التي تنظم سقي الحقول، في مشهد يتكرر كل موسم ويعكس تلاحم الإنسان مع بيئته وارتباطه الوثيق بها.
أصبح جريان الأودية موسمًا متجددًا للزراعة، فتزرع الذرة بأنواعها والسمسم على امتداد الأراضي الخصبة، وتبدأ دورة المواسم الزراعية مع “الخريف” في الثالث والعشرين من أغسطس، ثم “مذرة المخرط” في السادس عشر من أكتوبر، تليها “السعودات” في الحادي والثلاثين من ديسمبر، ثم “المقدم” في الثامن والعشرين من يناير، لتظل الأرض في حركة دائمة من العطاء والنماء.
تستمر أودية جازان اليوم في أداء دورها كرافد للحياة، فهي ليست مجرد مجارٍ للمياه، بل شواهد على تاريخ الإنسان وكفاحه، ومصدر اعتزاز لأجيال ترى في الأودية ذاكرة المكان ومصدر الرزق والاستقرار، لتبقى الأودية حاضرة في وجدان الأهالي كرمز متجدد للعطاء الذي لا ينضب عبر الزمن.





