أعمدة بحيرة كراولي.. كاتدرائية حجرية نحتتها نيران الطبيعة

تقف أعمدة بحيرة كراولي شامخة على الشاطئ الشمالي للبحيرة في شرق كاليفورنيا، كواحدة من أعجب التكوينات الجيولوجية التي أبدعتها الطبيعة في الولايات المتحدة.
تجذب هذه الأعمدة الحجرية الزوار والعلماء على حد سواء، إذ تروي صخورها الصامتة قصة بدأت قبل أكثر من سبعمئة ألف عام، حين شهدت المنطقة ثورانًا بركانيًا هائلًا غيّر وجه الأرض وأعاد رسم ملامحها.
نشأت هذه الأعمدة الفريدة نتيجة ثوران كالديرا وادي لونغ الذي وقع قبل نحو 760 ألف عام، حيث اندفع الرماد البركاني الساخن من فوهة البركان بقوة، ليغطي مساحات شاسعة بطبقات كثيفة من الحمم المتجمدة المعروفة باسم تكوين بيشوب.
تراكمت هذه الطبقات على مدى سنوات طويلة، فكوّنت قاعدة سميكة من الصخور البركانية المسامية التي ستصبح لاحقًا مسرحًا لتفاعل طبيعي مذهل بين النار والماء.
تسللت المياه الباردة الناتجة عن ذوبان الثلوج أو تسربات الينابيع إلى أعماق تلك الطبقات البركانية، لتلتقي بحرارة الصخور المشتعلة في تفاعل حراري معقّد، شكّل خلايا عمودية تُعرف بالخلايا الحرارية.
ومع مرور الزمن، بدأت هذه الخلايا تعمل كقنوات لمرور المياه المعدنية الغنية بالعناصر، فترسّبت داخلها معادن صلبة مثل الموردينايت والسيليكا، بينما بقيت الصخور المحيطة أقل صلابة وأكثر عرضة للتعرية.
كشفت عوامل التعرية المائية والريحية عبر آلاف السنين هذه القنوات العمودية المتصلبة، لتظهر الأعمدة الحجرية في صورتها الحالية التي تبهر الناظرين.
يتراوح ارتفاع الأعمدة بين ثلاثة وستة أمتار، ويُقدّر عددها بما يزيد على خمسة آلاف عمود، يتوزعون في تشكيلات متناسقة تبدو كأنها أروقة كاتدرائية ضخمة منحوتة في قلب الصخر.
ويُدهش هذا المشهد كل من يزوره، إذ تتدرج الألوان بين الرمادي والبيج، فيما تنحني بعض الأعمدة لتكوّن أقواسًا طبيعية تضيف إلى جمال المشهد بعدًا فنيًا يصعب تصديقه.
تحمل هذه الأعمدة في طياتها مزيجًا من البساطة والتعقيد، فهي ناتجة عن تفاعل ثلاث قوى طبيعية كبرى: البركان والماء والزمن، كل واحدة منها تركت بصمتها على الصخور، لتنتج هذا التكوين المذهل الذي يبدو وكأنه من صنع نحات خفي.
واليوم، تُعد بحيرة كراولي موقعًا جيولوجيًا بارزًا ومقصدًا سياحيًا مهمًا، يأتيه الزوار من مختلف أنحاء العالم لاكتشاف أسرار تلك الأعمدة التي تختصر ملايين السنين من تاريخ الأرض في مشهد واحد لا يُنسى.
بهذا المشهد الساحر، تبقى أعمدة بحيرة كراولي شاهدًا على قدرة الطبيعة على الابتكار، وعلى أن الجمال الحقيقي لا يحتاج يدًا بشرية ليُولد، بل يكفي أن تتقاطع النار بالماء ليولد من رحم الصخور معمار لا مثيل له في العالم.





