الأخبار

المشتري.. معجزة هندسية سماوية تحمي الأرض من صدامات القدر

يُظهر كوكب المشتري منذ فجر علم الفلك هيبته المطلقة كملكٍ متوجٍ على عرش النظام الشمسي، عملاقٌ غازيٌّ يفوق كل الكواكب الأخرى حجمًا وكتلة، حتى إن وزنه يساوي أكثر من ضعفي مجموعها مجتمعين.

وعندما تُوجّه عدسة التلسكوب نحو هذا الكوكب المذهل، تنكشف أمام الناظر كرة ضخمة من الغازات المتراقصة في طبقات متداخلة من الأبيض والبرتقالي والبني، تلتف حول نفسها في حزامٍ من العواصف المتواصلة، تتوسطها تلك البقعة الحمراء العملاقة التي اشتهر بها المشتري عبر القرون، عاصفة هائلة تدور دون توقف منذ أكثر من ثلاثمئة عام، تمتد أوسع من قطر كوكب الأرض نفسه.

ويمثل المشتري أكثر من مجرد كوكبٍ جميل في السماء، فهو يلعب دورًا حاسمًا في التوازن الكوني لنظامنا الشمسي، بجاذبيته الهائلة، يعمل كدرع واقٍ للأرض، يمتص أو يغيّر مسار الكويكبات والمذنبات التي تندفع نحونا من أعماق الفضاء.

ومع كل اصطدامٍ يقع على سطحه الغازي أو يُبتلع في مجاله الجاذبي، تتفادى الأرض خطرًا محتومًا، كأن المشتري يقف حارسًا صامتًا يصدّ عنا تهديدات الكون، ويضمن استمرار الحياة في كوكبنا الصغير دون أن ندرك حجم الفضل الكامن في وجوده.

وعلى الرغم من ضخامته، فإن المشتري ليس كوكبًا يمكن السير على سطحه أو الهبوط فوقه، فهو مكوّن في معظمه من الهيدروجين والهيليوم، ما يجعله عالمًا بلا أرضٍ صلبة.

ومع التوغل في أعماقه، يتحول الهيدروجين بفعل الضغط الهائل إلى ما يُعرف بـ«الهيدروجين المعدني»، وهي مادة غريبة تولّد مجالًا مغناطيسيًا هائل القوة، يفوق في شدته أي مجالٍ آخر في الكواكب المعروفة، هذا المجال المغناطيسي يمتد لمسافات شاسعة في الفضاء، فيرسم حول المشتري هالةً من الإشعاع تجعله أقرب إلى نجمٍ خافتٍ منه إلى كوكبٍ تقليدي.

ولا يكتمل مشهد المشتري دون الحديث عن مملكته المدهشة من الأقمار التي تدور حوله، والتي يفوق عددها الثمانين قمرًا، لكل منها طابع خاص وسحر مختلف، من بين هذه الأقمار يبرز «أوروبا» بسطحه الجليدي اللامع الذي يعتقد العلماء أن تحته محيطًا سائلًا قد يكون موطنًا لأشكال من الحياة الميكروبية، و«آيو» الذي يُعتبر أكثر الأجسام البركانية نشاطًا في النظام الشمسي، حيث تتفجر براكينه باستمرار في مشهد يذكّر بجحيمٍ ملتهب وسط برودة الفضاء اللامتناهية.

ويظل المشتري لغزًا علميًا وروحيًا في آنٍ واحد، يجمع بين الجمال والعظمة والدور الكوني العظيم، إنه ليس مجرد جرمٍ غازيٍّ عملاق يدور في الفضاء، بل تجسيدٌ لقوة الخلق والتناغم الدقيق في هذا الكون، الذي صُمم بحيث يكون لكل جرمٍ دوره، ولكل حركةٍ معناها.

وبينما ننظر إلى السماء ليلاً دون أن نعلم، يظل المشتري هناك، يقوم بمهمته الأبدية في حماية الأرض من صدامات القدر، ويذكّرنا بأن في هذا الكون أسرارًا أعظم من أن تُرى بالعين، لكنها تُحسّ بالقلب والعقل معًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى