حمامات كركلا.. تحفة رومانية تجمع بين الفخامة والتاريخ الحي
تتجلى روما في أبهى صورها بين أطلال الماضي ومجد الحاضر، ومن بين آثارها التي ما زالت تحتفظ بعظمتها تقف حمامات كركلا شاهدًا خالدًا على روعة العمارة الرومانية وعبق حضارتها القديمة.
شُيّدت هذه الحمامات في عام 216 ميلادية بأمر من الإمبراطور كركلا، لتكون أكثر من مجرد مكانٍ للاستحمام، إذ صُممت كمجمع اجتماعي وثقافي ورياضي ضخم، يجتمع فيه الناس من مختلف الطبقات لقضاء أوقاتهم بين الماء والرياضة والقراءة واللقاءات العامة، في صورة مبكرة لما يمكن تسميته اليوم بنوادٍ عامة نابضة بالحياة.
وتدل ضخامة البناء على ما كانت عليه الإمبراطورية الرومانية من ثراءٍ وهوسٍ بالفخامة، إذ كانت الحمامات تمتد على مساحة شاسعة، وتضم بركًا للمياه الباردة وأخرى للدافئة وثالثة للمياه الساخنة، إلى جانب صالاتٍ لممارسة الرياضة وغرفٍ للقراءة وأخرى للاجتماعات.
كان الزائر الروماني يدخل هذا المكان ليغتسل من تعب النهار ويغوص في أجواء من الترف والراحة، فالمكان لم يكن مرفقًا عامًا فحسب، بل مساحةً للتأمل والنقاش وتبادل الأفكار بين نخب روما ومواطنيها على حد سواء.
وعند التجول داخل أطلال الحمامات اليوم، يشعر الزائر بعظمة التاريخ التي تتنفس بين الجدران، فحتى بعد مرور ما يقرب من ألفي عام، ما زالت الأعمدة الشاهقة والأقواس المهيبة تحتفظ بجزء من هيبتها الأصلية.
ورغم أن الزمن والرياح والأمطار قد نالت من أجزاء كثيرة من البناء، إلا أن روح المكان لم تندثر، بل تظل حاضرة في تفاصيله، وكأنك تسمع همسات الرومان القدامى وهم يتحدثون بين تلك الجدران المكللة بالفسيفساء.
أما أرضيات الحمامات، فهي لوحة فنية متكاملة تفيض بالألوان والزخارف التي تجسد مهارة الحرفيين الرومان، إذ تغطي الفسيفساء المذهلة الأرض والجدران بأشكال هندسية وحيوانية غاية في الدقة والجمال، ولا تقف هذه الفنون عند حدود الجمال، بل تعكس ثقافة عصرٍ آمن بأن الجمال جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية، حتى في أماكن الاستحمام.
ومن المدهش أن العديد من هذه الزخارف ما زالت باقية حتى اليوم بحالتها الأصلية، لتروي قصة حضارة لم يَخفت بريقها رغم تعاقب القرون.
وما يميز حمامات كركلا اليوم هو قدرتها على الجمع بين الماضي والحاضر في مشهد واحد، فالموقع الأثري لم يعد مجرد أطلال صامتة، بل تحول إلى مسرحٍ للفنون الحديثة، حيث تُقام فيه عروض الأوبرا والحفلات الموسيقية في الهواء الطلق كل صيف، هذا التزاوج بين التاريخ والثقافة المعاصرة يُعيد للمكان روحه الأولى كمركزٍ للثقافة والفن، ويمنح الزوار تجربة استثنائية تجمع بين رهبة الآثار وسحر الموسيقى.
وإذا كنت تزور روما في موسم الصيف، فإن حضور عرض موسيقي في حمامات كركلا يعد تجربة لا تُنسى، ففي كل نغمةٍ تتردد بين الجدران الحجرية العريقة، يعود الزمن إلى الوراء، لتشعر أنك تجلس بين مواطني روما القديمة في احتفالٍ لا ينتهي، حيث يتجسد التاريخ في أجمل صوره، ويُثبت أن الفن والعمارة قادران على مقاومة الفناء.





