جزيرة جيملير.. حين يختبئ التاريخ في صمت البحر وتتكلم حجارة العزلة
تثير جزيرة جيملير في بحر مرمرة فضول الزائرين بما تحمله من أسرار التاريخ وملامح العزلة، إذ تقع قرب مدينة إسطنبول وتعد من الجزر النادرة التي ظلت محتفظة بطابعها الهادئ رغم قربها من واحدة من أكثر المدن ازدحاماً في العالم، وتبدو الجزيرة وكأنها متحف طبيعي يروي فصولاً من الماضي الإغريقي والبيزنطي والعثماني، حيث تتداخل آثار الأديرة القديمة مع الطبيعة التي لم تمسها يد الحداثة بعد، ما يمنحها هوية خاصة لا تشبه أي جزيرة أخرى في بحر مرمرة.
تحمل الجزيرة اسماً ارتبط برهبان عاشوا فيها منذ القرن السادس الميلادي، إذ كانت تعرف قديماً باسم “كالونيموس” ثم تحولت إلى مركز ديني بيزنطي شهير احتضن عشرات الأديرة، وكان أبرزها دير القديس نيكولاس الذي لا تزال بقاياه قائمة حتى اليوم رغم عوامل الزمن، وتشير سجلات تاريخية إلى أن الإمبراطورين البيزنطيين قسطنطين السابع وباسيليوس الثاني اتخذاها مقراً للنفي لبعض رجال الدين، وهو ما جعلها مسرحاً لأحداث سياسية ودينية متشابكة استمرت لقرون طويلة.
تتميز الجزيرة بمساحتها الصغيرة التي لا تتجاوز بضعة كيلومترات مربعة، لكنها غنية بالتفاصيل التي تجذب الباحثين والسياح، إذ لا توجد فيها سيارات أو ضوضاء المدن، ويصل إليها الزائر عبر قوارب تنطلق من موانئ إسطنبول خلال رحلة تستغرق قرابة الساعة، وهناك يجد منازل حجرية بسيطة تنتشر على المنحدرات، وشواطئ ضيقة تحيط بها الغابات، وأجواء تذكّر بالحياة الريفية القديمة التي اندثرت من معظم جزر المنطقة، ما جعلها مقصداً لعشاق العزلة والتاريخ في آن واحد.
شهدت الجزيرة تراجعاً سكانياً حاداً خلال القرن العشرين بعدما غادرها اليونانيون الأرثوذكس إثر التبادل السكاني بين تركيا واليونان عام 1923، وتحولت تدريجياً إلى منطقة شبه مهجورة، ومع ذلك استمرت السلطات التركية في حماية موقعها الأثري، وأدرجت بقايا الأديرة والكنائس ضمن قائمة التراث الثقافي، وبدأت في السنوات الأخيرة مشروعات ترميم محدودة تهدف إلى إعادة الحياة السياحية إليها دون المساس بخصوصيتها التاريخية، وقد أثار ذلك اهتماماً متزايداً من قبل مؤرخين ومصورين يسعون لتوثيق ما تبقى من معالمها الأصلية قبل أن تختفي.
يعتقد الزائر وهو يسير في طرقاتها الحجرية أنه يقطع مسافة زمنية لا جغرافية، إذ تمتزج أصوات البحر بنسيم خفيف يعيد للأذهان صورة الرهبان الذين عاشوا فيها في عزلة تامة، ويصفها بعض الرحالة المعاصرين بأنها مكان تتوقف فيه عقارب الساعة، لأن ملامح الماضي حاضرة في كل زاوية من زواياها، ورغم صمتها الطويل ما زالت الجزيرة قادرة على أن تروي قصة الإنسان الذي اختار العزلة بحثاً عن السلام، لتبقى جيملير شاهدة على تاريخ طويل من الإيمان والصراع والسكينة في قلب بحر مرمرة.





