ملامح من ذاكرة الطين تجمع الأجيال في الحدود الشمالية
تجسد مجالس البيوت الطينية في القرى والبلدات القديمة ملامح الهوية الاجتماعية والثقافية بمنطقة الحدود الشمالية، حيث تعمل هذه المساحات كفضاءات حية نابضة بالتفاعل الإنساني المستمر بين السكان والزوار، وتعكس في زواياها تاريخاً طويلاً من التكاتف الذي ميز أبناء المنطقة عبر العصور المتتالية.
تمثل قرى منطقة الحدود الشمالية مثل قرية لينة التاريخية ولوقة والدويد وأم رضمة محطات رئيسية لاستقبال الضيوف، وتعتبر هذه المواقع منطلقاً للحكايات والقصص البطولية التي تناقلتها الأجيال المتعاقبة بوعي وفخر، مما جعلها مخزناً ثقافياً يحفظ الذاكرة الشعبية من الاندثار في ظل المتغيرات الحديثة.
تتسع مجالس تلك القرى العريقة للجميع وتحتضن الحشود الكبيرة بترحيب معهود ولا تضيق أبداً بأهلها أو قاصديها، وكأن هذه الجدران قد صُممت خصيصاً لتمنح الإنسان شعوراً عميقاً بالألفة والانتماء للمكان، وهو ما يفسر الارتباط الوجداني الوثيق بين كبار السن وهذه العمارة التقليدية.
شيد الأهالي هذه المجالس قديماً باستخدام مواد مستخرجة من البيئة المحيطة لتلبي احتياجاتهم المعيشية بذكاء وفطرة، وتعكس هذه الطريقة بساطة العيش ونقاء السجية التي تميز بها الأجداد في التعامل مع قسوة الظروف الطبيعية، مما خلق تناغماً فريداً بين الإنسان ومحيطه الحيوي الجاف.
تشكلت شخصية الإنسان الفطرية في هذه المجالس بعفويتها وصفائها المعهود وابتعدت كلياً عن مظاهر التعقيد المعاصر، لتغدو هذه المساحات مرآة صادقة تعكس روح المجتمع وقيمه الأخلاقية الراسخة في إكرام الضيف، ومساعدة المحتاج وبناء جسور التواصل بين مختلف القبائل والعوائل المقيمة.
تفوح رائحة القهوة العربية من دلالها المرصوفة بعناية في صدارة المجلس لتروي قصة كرم لا تنتهي فصولها، ويحرص الشباب على الحضور الدائم للتعلم من حكمة الكبار والاستماع لدروس الحياة التي لا توفرها الكتب، مما يضمن انتقال هذه الموروثات السلوكية من جيل إلى جيل بكل أمانة.
تستعرض جدران البيوت الطينية بتفاصيلها البسيطة فنون العمارة التقليدية التي اعتمدت على الطين والتبن وجذوع الأشجار، وتظهر هذه المواد قدرة فائقة على عزل الحرارة وتوفير أجواء باردة صيفاً ودافئة شتاءً، مما جعل المجلس مكاناً مثالياً للتجمع في مختلف فصول السنة المتقلبة.
يحافظ سكان القرى الشمالية على طقوس المجلس اليومية كجزء لا يتجزأ من روتين حياتهم الذي لم يتغير كثيراً، حيث تبدأ اللقاءات بعد صلاة العصر وتستمر حتى ساعات متأخرة من المساء في نقاشات حول الشؤون العامة، والمسائل الاجتماعية التي تهم أفراد المجتمع المحلي في تلك المناطق.
تساهم هذه البيوت التاريخية في تعزيز السياحة التراثية بالمنطقة عبر جذب المهتمين بدراسة نمط الحياة القديم في الجزيرة العربية، وتدعم الجهات المعنية ترميم هذه المجالس لتظل شاهدة على عصر ذهبي من الترابط الإنساني، ولتبقى رمزاً شامخاً يعبر عن أصالة الهوية الوطنية السعودية وتنوعها.





