كهف غامض في عمق الجزيرة يكشف أسرار استيطان بشري عمره عشرة آلاف عام
يكشف كهف “أم جرسان” شمال المدينة المنورة عن واحدة من أقدم محطات الاستيطان البشري في الجزيرة العربية، إذ أظهرت الدراسات الأثرية أن الإنسان استوطن داخله منذ ما بين سبعة آلاف إلى عشرة آلاف عام، وهو ما يجعل الموقع مرجعاً علمياً لفهم بدايات الاستقرار في شبه الجزيرة، خاصة أنه يرتبط بمرحلة العصر الحجري الحديث التي مثلت تحولات كبيرة في حياة الإنسان.
يمتد الكهف لمسافة 1350 متراً، ويبلغ ارتفاعه 12 متراً وعرضه نحو 45 متراً، ليكون بذلك أطول قناة أنبوبية بركانية معروفة في الجزيرة العربية، وتشير خصائصه الطبيعية إلى تشكله بفعل تدفقات الحمم القديمة التي صنعت ممراً طبيعياً واسعاً وفر ملاذاً للسكان الأوائل، كما أتاح بيئة مناسبة لاحتضان حياة اجتماعية امتدت عبر آلاف السنين.
عثرت فرق البحث المشتركة من هيئة التراث وجامعة الملك سعود وهيئة المساحة الجيولوجية السعودية ومعهد ماكس بلانك الألماني على بقايا عظمية لحيوانات مستأنسة تعود إلى نحو 4100 سنة قبل الميلاد، إلى جانب جماجم بشرية قدر عمرها بستة آلاف سنة قبل الميلاد، كما وجدت أدوات حجرية متعددة الاستخدام ومواد عضوية مختلفة، إضافة إلى فنون صخرية تحكي مشاهد للرعي والصيد وتكشف جانباً من ممارسات الحياة اليومية في تلك الفترة.
تشير هذه المكتشفات إلى أن سكان الكهف عرفوا أساليب الزراعة واستئناس الحيوان، كما مارسوا الصيد في بيئة غنية بالموارد الطبيعية، وهو ما يعزز الفرضية القائلة بأن شمال الجزيرة العربية كان جزءاً من الامتداد الحضاري الذي ربط المنطقة بالهلال الخصيب، ويكشف عن دورها كمركز تفاعل بشري مبكر ساهم في تشكيل مسارات التاريخ.
أكدت هيئة التراث أن كهف “أم جرسان” يمثل نموذجاً فريداً يجمع بين التراث الطبيعي والإنساني، حيث يعكس عمق الجذور الحضارية للمملكة ويقدم أدلة عملية على التحولات الاجتماعية التي مر بها الإنسان منذ آلاف السنين، كما أوضحت أن الاهتمام بالموقع يأتي في إطار الجهود الوطنية لتعزيز البحث العلمي وحماية المواقع الأثرية، بما ينسجم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030 الرامية إلى إبراز الإرث التاريخي والمعرفي للمملكة.
أبرزت الدراسات أن وجود أدوات حجرية وفنون صخرية يعكس ملامح الوعي الإنساني المبكر وقدرته على التعبير الرمزي والتخطيط للأنشطة الحياتية، وهو ما يمنح الكهف قيمة ثقافية وعلمية مضاعفة، ليكون أحد المواقع النادرة التي توثق لحظة الانتقال من الترحال إلى الاستقرار في الجزيرة العربية، وليشكل مرجعاً مفتوحاً أمام الباحثين والجمهور لفهم مراحل مهمة من تاريخ الإنسان.





