وجهات سياحية

سراديب باريس.. مدينة الموتى التي تنبض بالحياة تحت الأرض

تخفي باريس تحت شوارعها اللامعة عالمًا آخر يضج بالصمت والرعب في آن واحد، عالمًا لا يشبه شيئًا من معالمها فوق الأرض، فقد احتاجت المدينة، المعروفة باسم “مدينة النور”، إلى أكثر من اثني عشر عامًا لنقل عظام نحو سبعة ملايين شخص إلى شبكة ضخمة من الأنفاق والممرات تحت الأرض، عُرفت لاحقًا باسم “سراديب الموتى”.

بدأت القصة في القرن الثامن عشر، حين أصبحت مقابر باريس مكتظة على نحو لا يُحتمل، فطفحت العظام إلى السطح وتلوثت المياه الجوفية، مما أجبر السلطات على اتخاذ قرار قاسٍ ومثير للجدل بنقل الرفات إلى باطن المدينة.

نُقلت العظام من المقابر القديمة بعناية ليلاً، وسط أجواء من الرهبة والاحترام، حيث كان العمال يسيرون في مواكب طويلة تحمل العظام على عربات إلى الأنفاق الحجرية العميقة.

استمر هذا العمل المرهق اثني عشر عامًا متواصلة، حتى تحولت سراديب باريس إلى أكبر مقبرة جماعية في العالم، تمتد لأكثر من 300 كيلومتر تحت الأرض، إلا أن الجزء المفتوح للزوار اليوم لا يتجاوز كيلومترين فقط، حفاظًا على سلامة الموقع والزائرين.

تحتضن هذه السراديب عظام أشخاص من طبقات اجتماعية مختلفة، من الفقراء والعامة إلى النبلاء والملوك، وحتى بقايا ضحايا الثورات والأوبئة التي عصفت بفرنسا على مدى قرون.

بعض العظام يعود إلى العصر الميروفينجي، أي قبل أكثر من 1200 عام، ما يجعل هذه الممرات ليست مجرد مدفن ضخم، بل سجلًا حيًا لتاريخ فرنسا بكل ما فيه من صراعات وتحولات.

وتُرتب العظام بعناية فنية، إذ تتكدس الجماجم والعظام الطويلة في جدران هندسية مهيبة، تشكل لوحات مرعبة من الجمال المظلم الذي لا يُشبه شيئًا آخر في العالم.

تحوّلت السراديب اليوم إلى وجهة سياحية عالمية يقصدها المغامرون وعشاق الغموض، ممن ينجذبون إلى سحر المجهول، يسير الزائر عبر ممرات ضيقة مضاءة بإضاءة خافتة، يشعر خلالها بثقل التاريخ يحيط به من كل جانب، ويستمع إلى صدى خطواته كأنها تذكّره بأنه ضيف عابر في مدينة الأموات.

ولا تخلو التجربة من رهبة حقيقية، إذ يروي بعض الزوار شعورهم بوجود طاقة غامضة في المكان، بينما يرى آخرون أن السراديب تجسد احترامًا فريدًا للموتى وتوثيقًا بصريًا نادرًا لذاكرة باريس الدفينة.

تظل سراديب الموتى في باريس أحد أكثر المعالم غموضًا وجاذبية في العالم، فهي تختصر علاقة الإنسان بالموت في مشهد فريد يجمع بين الرعب والجمال، وبين الرهبة والتاريخ.

وبينما تضج شوارع باريس بالحياة فوق الأرض، تنام تحتها ملايين الأرواح في صمت أزلي، لتبقى المدينة شاهدًا على أن النور لا يكتمل إلا بظلّه، وأن لكل حضارة قلبًا ينبض بالحياة وآخر يهمس من تحت التراب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى