تخفي أسرارها بين الصخور.. قرية يمنية شاهقة تحكي سبعة قرون من الصمود والجمال
اعتاد اليمنيون منذ القدم على تشييد منازلهم فوق القمم الشاهقة، ليصنعوا لأنفسهم دروعًا طبيعية تحميهم من الغزاة، وتقيهم خطر الهجمات المتكررة التي كانت تعصف ببلادهم، فكان ارتفاع الأرض حصنهم الأول وسلاحهم الذي لا يُقهر، ومن بين تلك الشواهد التاريخية تبرز قرية “حيد الجزيل” الأثرية، كتحفة معمارية معلقة بين السماء والأرض، تختصر في تفاصيلها روح اليمن القديم وجمال حضرموت الأبدي.
تقف قرية “حيد الجزيل” في وادي دوعن بمحافظة حضرموت، متربعة على صخرة ضخمة ترتفع نحو 300 متر عن سطح الوادي، وكأنها تتحدى الزمن بصمودها، إذ تشير المراجع التاريخية إلى أن عمرها يتجاوز خمسة قرون، فيما يروي سكانها أن جذورها تمتد إلى سبعمائة عام، لتغدو اليوم رمزًا للعمارة الدفاعية اليمنية التي جمعت بين القوة والجمال في آن واحد، فكل حجر فيها يروي قصة بقاء، وكل بيت يحمل ذاكرة أجيال.
وتتطلب زيارة القرية مغامرة فريدة من نوعها، إذ لا سبيل للوصول إليها إلا عبر درج حجري منحوت بعناية في الصخر، يمتد لمسافات طويلة ويتعرج عبر المنحدرات الخطيرة، حتى ينتهي بباب خشبي يُغلق ليلًا كما لو أنه يحرس التاريخ نفسه، ورغم صعوبة الطريق، إلا أن المشهد من الأعلى يستحق العناء، فالوادي الممتد أسفل القرية تكسوه الخضرة، وتنتشر فيه مزارع النخيل والموز والحمضيات، في لوحة طبيعية تأسر القلوب قبل الأبصار.
ويصف زوار “حيد الجزيل” شعورهم عند بلوغ القمة بأنه مزيج من الدهشة والرهبة، فالمنازل المعلقة تبدو كأنها جزء من الجبل نفسه، متماسكة ومتناسقة رغم مرور القرون، وعددها يتراوح بين ثلاثين وأربعين منزلًا بنيت من “اللبن”، وهو مزيج من الطين والقش، نُقل على ظهور الحمير من الوادي، فيما ترتكز طوابقها على أعمدة خشبية من شجر السدر، الذي يُعرف بصلابته وقدرته على مقاومة الزلازل والعوامل الطبيعية.
ويرى المؤرخ الحضرمي عمر باغبار العمودي أن قرية “حيد الجزيل” تمثل نموذجًا فريدًا للعمارة التقليدية في حضرموت، حيث جمعت بين البساطة في المواد والعبقرية في التصميم، موضحًا أن تسمية “الحيد” تعني الجبل في اللهجة المحلية، و”الجزيل” بمعنى العظيم، أي “الجبل العظيم”، وهو وصف دقيق يليق بموقعها المهيب فوق الصخرة العملاقة، مشيرًا إلى أن بعض المنازل يعود تاريخ بنائها إلى قرنين فقط، بينما يحتفظ معظمها بعمر يزيد على سبعمائة عام.
وتحيط بالقرية ممرات ضيقة تتفرع بين المنازل العالية، تتخللها أبواب خشبية منقوشة بزخارف هندسية رائعة، تُظهر براعة الحرفيين اليمنيين الذين حولوا الخشب إلى لغة تحكي هوية المكان، فيما يطل سكان القرية يوميًا على مشهد الوادي الذي يحتضن أجود أنواع العسل اليمني الشهير “العسل الدوعني”، ليضفي على المكان عبق الطبيعة وثراء الموروث الحضرمي.
وتظل “حيد الجزيل” جوهرة دوعن التي لم يفقد بريقها رغم مرور القرون، قرية تعانق الغيم وتواجه العزلة بشموخ، شاهدة على حضارةٍ صاغت من الطين قصورًا، ومن العزلة جمالًا خالدًا، لتبقى علامة مضيئة في تاريخ اليمن، ووجهة سياحية تنتظر أن تُكتشف من جديد، حاملةً بين جدرانها قصة أمةٍ بنت مجدها بالحجارة واحتضنت سماءها بالصبر والجمال.





