سجل حضاري يوثق تفاصيل الحياة والموت قبل 3 آلاف عام
تحتضن محافظة العُلا في وقتنا الحاضر أحد أبرز الشواهد الأثرية في شمال غرب الجزيرة العربية، حيث تتمثل هذه القيمة التاريخية في مقابر الأسود بمدينة دادان العريقة، التي يعود تاريخ بنائها إلى النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد، وتعكس هذه المعالم عمق الحضور الحضاري للمنطقة خلال تلك الحقبة الزمنية البعيدة، موثقةً مراحل هامة من التطور الإنساني في فنون النحت والعمارة.
تنتشر على سفوح جبل دادان المقابر المنحوتة في الصخر بأشكال وأحجام متعددة ومثيرة للإعجاب، وتظهر في الموقع نماذج لمقابر جماعية تضم غرفاً صخرية تحتوي على عدة قبور متجاورة، إلى جانب مقابر فردية حُفرت بدقة في واجهة الجبل على هيئة فتحات مربعة غائرة، حيث يزيد عمق هذه الفتحات على مترين في قلب الصخر، مما يبرز مهارة البناء والجهد الهندسي المبذول.
تبرز من بين هذه المقابر واجهة فريدة تزيّنها أربعة أسود منحوتة بعناية فائقة في تجاويف مستطيلة، ويتوزع كل أسدين منها حول قبر واحد بأسلوب فني يجمع بين الهيبة والجمال، وهو ما منح الموقع تسميته الشهيرة التي يتداولها الباحثون والسياح اليوم بـ “مقبرة الأسود”، وتظهر هذه المنحوتات في وضعية مواجهة فريدة وهي مرتكزة بثبات على قوائمها الأمامية القوية فوق مداخل المدافن.
تتسم هذه المنحوتات الجبلية بأسلوب فني يعتمد على التجريد والتحوير الهندسي الدقيق في ملامحها، إذ تبرز تفاصيل الوجه واللبدة عبر خطوط أفقية منتظمة تعكس براعة الفنان الداداني القديم، وقد صُممت هذه الأشكال داخل مساحات غائرة لتظل محمية من العوامل الجوية لآلاف السنين، مما حافظ على قيمتها الجمالية والتاريخية كأحد أهم الكنوز البصرية التي تميز مدينة دادان الأثرية.
ارتبط الأسد في سياق الرمزية الحضارية بمكانة بارزة في معتقدات حضارات الشرق القديم، حيث حملت صورته معاني القوة المطلقة والحماية الصارمة والهيبة التي تليق بعظمة الموتى وأصحاب القبور، ويشير هذا الاختيار الفني إلى الأبعاد الرمزية التي حملتها المنحوتات ضمن المعتقدات الجنائزية السائدة آنذاك، مما يؤكد تأثر حضارة العلا بالمفاهيم الفلسفية والروحية التي سادت المنطقة قديماً.
تعكس مقابر الأسود في العلا قيمة تاريخية وثقافية عالية تتجاوز حدود الشكل المعماري الخارجي، فهي تسلط الضوء على تطور الفنون الجنائزية والقدرة على تطويع الجبال الصماء لتصبح سجلاً حضارياً ناطقاً، وتؤكد مكانة الموقع كمرجع عالمي يوثق تطور الفكر الإنساني والاجتماعي عبر العصور المتلاحقة، مما يجعل من العلا وجهة لا غنى عنها للباحثين في أسرار الحضارات العربية القديمة.
يستطيع الزائر لموقع دادان رصد التباين في أحجام الفتحات الصخرية التي تعكس الفوارق الطبقية والاجتماعية، وتكشف هذه التفاصيل الدقيقة عن تنظيم مجتمعي متطور كان يحكم المدينة في الألفية الأولى قبل الميلاد، حيث يتم دمج المعلومات الأثرية مع الواقع الجغرافي للجبل لتفسير كيفية اختيار هذه المواقع المرتفعة لتكون مدافن خالدة، تطل على واحات العلا الخضراء ومسارات القوافل التجارية القديمة.
تواصل الهيئة الملكية لمحافظة العلا جهودها في صون هذه المواقع وحمايتها من التعديات وعوامل التعرية الطبيعية، ويتم العمل حالياً على تحويل مقابر الأسود إلى مزار عالمي يطبق أعلى معايير الحماية والترميم العلمي الدقيق، لضمان بقاء هذه المنحوتات كشاهد حي على عظمة الإنسان الذي استوطن هذه الأرض، واستطاع ب أدواته البسيطة أن ينحت الصخر ويترك أثراً يخلد ذكره عبر آلاف السنين.
تعتبر مقابر الأسود أيقونة بصرية تختصر حكاية مدينة دادان التي كانت يوماً عاصمة لمملكتي دادان ولحيان، ويساهم هذا السرد القصصي والتاريخي في ربط الأجيال الجديدة بجذورهم التاريخية العميقة في الجزيرة العربية، لتظل العلا بمقابرها وجبالها مدرسة مفتوحة لتعلم الفن والتاريخ والآثار، ومنطلقاً لاستكشاف المزيد من الأسرار التي لا تزال تخبئها رمال وجبال هذه المنطقة الساحرة في كل زاوية من زواياها.





